{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا(57)}الإيذاء: إيقاع الألم من المؤذي للمؤذَي، سواء أكان الإيذاء بالقول أم بالفعل، والإيذاء بهذا المعنى أمر لا يتناسب مع الحق سبحانه وتعالى. إذن ما معنى: يؤذون الله؟قالوا: الله تعالى لا يُؤذَي بالفعل؛ لأنهم لا يستطيعون ذلك، فهو أمر غير ممكن، أما القول فممكن، والإيذاء هنا يكون بمعنى إغضاب الله تعالى بالقول الذي لا يليق به سبحانه، كقولهم: {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ...} [آل عمران: 181] وبعضهم أنكر وجود الله.وقولهم: {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ...} [المائدة: 64].وقولهم: {عُزَيْرٌ ابن الله...} [التوبة: 30].وبعضهم يسُبُّ الدهر، والله يقول في الحديث القدسي: (يؤذيني عبدي، وما كان له أنْ يؤذيني، يسبُّ الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أُقلِّبُ الليل والنهار).وهل الزمن له ذَنْب في الأحداث التي تؤلمك؟ الزمن مجرد ظرف للحدث، أما الفاعل فهو الله عز وجل، إذن: لا تسبُّوا الدهر، فالدهر هو الله، وهم أنفسهم قالوا: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر...} [الجاثية: 24].كل هذا إيذاء بالقول، لكن ينبغي أنْ ننظر فيه: أهو كذب وبهتان؟ أم قول صادق يقوم عليه دليل؟ وقد يُؤذيك شخص بكلمة، لكنك لا تُؤذَي منها، وفي هذه الحالة يأخذ هو إثمها، وتسْلَم أنت من شرها وتسلم من ألمها.. فهذه الأقوال منهم في الواقع فيها إيذاء، لكن ليس لله تعالى، إنما إيذاء لهم، كيف؟الحق سبحانه وتعالى حينما استخلف الإنسان في الأرض خلق له الكون قبل أنْ يخلقه فطرأ الإنسان على كون مُعَدٍّ لاستقباله، فيه مُقوِّمات بقاء الحياة، ومُقوِّمات بقاء النوع، ثم أعدَّ له أيضاً قانون صيانته، بحيث إنْ أصابه عطب استطاع أنْ يصلحه، هذا القانون هو منهجه سبحانه المحفوظ في كتابه، واقرأ قول الحق سبحانه: {الرحمن عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان} [الرحمن: 1-4].فقانون الصيانة في القرآن موجود قبل أنْ يخلق الإنسانَ؛ لأن الإنسان خَلْق الله وصَنْعته خلقه الله في أحسن تقويم، وعلى أحسن هيئة، ويريد له أنْ يظل هكذا سويَّ التكوين في كل شيء، فإذا ما خرج هذا الخليفة المخلوق لله على قانون صيانته، فإنه ولا شكَّ لابد أنْ يغضب الله، لأن الله يريد أنْ تظلَّ صنعته جميلة، كما أبدعها سبحانه.إذن: فالذين أنكروا وجود الله، أو الذين أشركوا به، والذين قالوا: (إن الله فقير ونحن أغنياء) أو قالوا: الملائكة بنات الله.. إلخ هذه الأقوال التي ترتب عليها غضب الحق سبحانه؛ لأنه خليفته في الأرض لم يُؤَدِّ المطلوب منه على حَسْب منهج الله.ونقول لهؤلاء: إياكم أنْ تظنوا أنكم بكفركم خرجتم من قبضة الحق سبحانه، بل أنتم في قبضته، وتحت مشيئته، ولو شاء سبحانه لقهركم على طاعته، أو خلقكم على هيئة الصلاح لا تأتي منكم المعصية كما خلق الملائكة، إنما جعلكم مختارين فيما كلفكم به، مَنْ شاء آمن، ومَنْ شاء كفر، ليعلم مَنْ يقبل عليه بحب لا بقهر.والدليل على ذلك أنكم مخلوقون، على هيئتين. هيئة لكم فيها اختيار وهي التكاليف، وهيئة مقبوضين في قبضة الحق سبحانه وهي القضاء، فما دمتم تعودتم التمرد على التكاليف، فلماذا لا تتمرَّدُون على أقدار الله فيكم، كالمرض والموت مثلاً؟ومع ذلك ما دُمْتَ قد اخترْتَ الكفر وأنا رَب، ومطلوب مني أنْ أعينك على ما تحب، فسوف أختم على قلبك، بحيث لا يدخله الإيمان، ولا يخرج منه الكفر الذي تحبه. إذن: أنا جئت على مرادك مما يدل على أن كفرك بي لا يضرني ولا يؤذيني.وقد ورد في الحديث القدسي:(يا عبادي، إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضُرِّي فتضروني).وإنْ كانت لكم منطقة اختيار في الدنيا هي أمور التكاليف، فسيأتي يوم القيامة، ويمتنع الاختيار كله، فلا اختيارَ لأحد في شيء يوم يقول الحق سبحانه: {لِّمَنِ الملك اليوم...} [غافر: 16] فلا يجيب أحد، لا مالك ولا مملوك، فيجيب الحق سبحانه على ذاته: {لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].هذا في معنى إيذاء الله تعالى، أما الإيذاء في حقِّ سيدنا رسول الله، فرسول الله بشر، يمكن أنْ يصيبه الإيذاء بالفعل والإيذاء بالقول، فكما قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء قالوا عن رسول الله: كاهن وساحر ومجنون وشاعر، ثم تعدَّى الإيذاء إلى الفعل الذي أصاب رسول الله وآلمه بالفعل.ألم يُرْمَ بالحجارة حتى دَمِيتْ قدماه في الطائف؟ ألم يضعوا على ظهره الشريف سَلاَ البعير في مكة- أي سَقَط البعير- ألم تكسَر رباعيته يوم أحد ويُشَجُّ ويسيل دمه صلى الله عليه وسلم؟فرسول الله ناله مع ربه- عز وجل- إيذاء بالقول، ثم ناله إيذاء آخر بالفعل، إيذاء بشرى فيه إيلام، وقمة الإيذاء بالفعل ما يتعرَّض لأمر محارمه وأزواجه صلى الله عليه وسلم.لذلك قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله...} [الأحزاب: 53] أي: بمخالفة ما جاء به، أو بأنْ تتهموه بما ليس فيه، أو تتعرَّضوا له بإيلام حسي، ثم لم يخص من ألوان الإيذاء إلا مسألة الأزواج، فقال: {وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً...} [الأحزاب: 53] وذكر هذه المسألة بالذات صراحةً مراعاة لطبيعة النفس البشرية، فقد قلنا: إن الرجل يمكن أن يتجمل على أصحابه أو أحبابه بأغلى ما يملك، لكنه أبداً لا يقبل أن ينظر أحد إلى زوجته، يحميها ويغَارُ عليها من مجرد النظر.لذلك فإن سيدنا حذيفة، وكان يحب امرأته، فقال لها: ألاَ تحبين أن تكوني معي في الجنة؟ فقالت: بلى، فقال لها: إذن إذا متُّ فلا تتزوجي بعدي- فهو يغار عليها حتى بعد موته- لأني سمعت رسول الله يقول: «المرأة لآخر أزواجها».لكن هذا الحديث وُوجه بحديث آخر: لما سُئِل رسول الله: أيُّ نساء الرجل تكون معه في الجنة؟ فقال: (أحسنهن خلُقاً معه).وقد رأى البعض تعارضاً بين هذين الحديثين، والواقع أنه ليس بينهما تعارض، لأن الآخرية هنا لا يُراد بها آخرية الزمن، إنما آخرية الانتقال، كما لو تمتعت برحلة جميلة مع أحد الأصدقاء منذ عشرين سنة، فلما ذكَّرته بها قال: كانت آخر متعة، مع أنك تمتعت بعدها برحلات أخرى.فالمعنى: تكون لآخر أزواجها في المتعة، وإن كان مُتقدِّماً بحُسْن الخلق، إذن: فالمعنيان متفقان، لا تعارض بينهما.ومسألة غَيْرة الرجل على المرأة لها جذور في تاريخنا وأدبنا العربي، ومن ذلك قول الشاعر:أَهِيمُ بِدَعْدٍ مَا حيَيتُ فإن أَمُتْ *** فوَا أسَفَي مَنْ ذَا يهيمُ بهَا بَعْديفهو مشغول بها حتى بعد أنْ يموت، لكن يُؤْخذ عليه أنه شغل بمن يحل محله في هيامه بمحبوبته؛ لذلك كان أبلغ منه قَوْل الآخر:أَهِيمُ بدَعْدٍ مَا حَييتُ فإن أَمُتْ *** فَلاَ صَلُحَتْ دَعْدٌ لذِي خُلَّةٍ بَعْديإذن: فهذه الغيرة مراتب ودرجات.ويُحدِّثنا التاريخ أن أحد الخلفاء العباسيين- أظنه الهادي- كان يحب جارية اسمها غادر، ولشدة حبه لها قالوا إنه تزوجها، وفي خلوة من خلوات الهيام والعِشْق قال لها: عاهديني- لأن صحته لم تكُنْ على ما يرام- إذا أنا مِتُّ أن لا تتزوجي بعدي، وفعلاً أعطتْه هذا العهد، فلما مات الهادي لم تلبث أن نسيَتْ غادر عشقها للهادي، ونسيتْ حُزْنها عليه- وهذا من رحمة الله بنا أن كل شيء يبدأ صغيراً ثم يكبر إلا المصائب، فإنها تبدأ كبيرة ثم تصغر.بعدها تزوجت غادر من أخي الهادي، وفي يوم من الأيام استيقظت فَزِعة صارخة، حتى اجتمع عليها مَنْ في القصر، وسألوها: ماذا بك؟ قالت: جاءني الهادي في المنام، وقال لي:خَالَفْتِ عَهْدِي بَعْدَمَا *** جَاوَرْتُ سُكَّانَ المقَابرْونكحْتِ غادرةً أخِي *** صَدَق الذِي سَمَّاكِ غَأدِرْلا يَهْنك الإلْفُ الجديدُ *** ولا عَدتْ عَنْك الدَّوائرْوَلَحقتِ بي مُنْذُ الصَّباح *** وصِرْتِ حَيْثُ ذهَبْتُ صائِروما كادت تنتهي من قولها حتى لفظت أنفاسها الأخيرة، وماتت لذلك، فالحق سبحانه يراعي هذه الغرائز الإنسانية وهذه الطبيعة، أَلا ترى أن عِدَّة المتوفَّي عنها زوجُها كانت سَنةً كاملة، كما في قوله تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ...} [البقرة: 240].ثم جُعلَتْ عِدَّة المتوفي عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام احتراماً لهذه الغريزة في المرأة.ثم يُبيّن الحق سبحانه الجزاء العادل لمن يؤذي الله ويؤذي رسول الله، فيقول سبحانه: {لَعَنَهُمُ الله...} [الأحزاب: 57] أي: طردهم من رحمته {فِي الدنيا والآخرة وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً} [الأحزاب: 57].ثم يعطينا الحق سبحانه إشارةً إلى أن هذا الجزاء العادل الذي أعدَّه لمن يؤذي الله ورسوله ليس تعصُّباً لله، ولا تعصباً لرسول الله، بدليل أن الذي يؤذي مؤمناً أو مؤمنة لابد أن يُجازَي عن هذا الإيذاء، فسوَّى المؤمن والمؤمنة في إرادة الإيذاء بإيذاء الله، وبإيذاء رسول الله، فقال سبحانه: {والذين يُؤْذُونَ...}.